مقال القاسمي قوة وإنصاف
نبوغ واضح وعبقرية مبكرة وعلوم شتى ومعتقد حسن، بذلك أصف الطبيب الأديب صلاح الدين يوسف القاسمي ـ رحمه الله تعالى ـ بقي في هذه الدنيا تسعة وعشرين عاماً، حيث ولد في 19/ صفر/ 1305 هـ بدمشق، فتعلم العلوم العصرية في المدارس النظامية إلى أن تخرج من كلية الطب، وكانت تسمى «المدرسة الطبية» عام 1332 هـ وتعلم العلوم الشرعية والعربية على يد أخيه والقائم على تربيته العلامة جمال الدين القاسمي. فجمع الخيرين وفاز بنصرين، مع ما وهبه الله من فطنة وذكاء حاد وقريحة شعرية متميزة، وصبر وجلد قويين، كانت الأنظار متجهة إليه، قد عَلّقت به آمالا كبيرة آمال أمة في مفترق طرق على حد سواء، لكن المنية إليه أسرع من رؤية البصر، فقد لقي ربه أثر ألم في الكبد أصابه وهو في مدينة الطائف يعمل طبيباً سنة 1334 هـ..
لقد وقفت على مقالاته التي جمعها ابن أخيه الدكتور مُسلّم القاسمي، وقام بطبعها الشيخ محب الدين الخطيب في مطبعته السلفية بمصر في سنة 1379 هـ بعنوان: «صفحات من تاريخ النهضة العربية في أوائل القرن العشرين» فرأيت فيها مقالاً بعنوان: «الحشوية والوهابية» أنصف فيه وأجاد، وبلغ الغاية في تحقيق الحق المراد، وليس من عجب أن يكتب هذا الشاب الألمعي ما كتب، فهو سليل بيت علم معروف بالسنة، مشتهر بتحقيق المتابعة والبراءة من رق التعصب والعنصريات، إنه بيت القاسمي في دمشق، الذي تاجه وفخره العلامة الكبير جمال الدين القاسمي السلفي، وهو أخو صاحبنا الدكتور صلاح الدين، والقائم على تربيته بعد وفاة والده وهو في السنة الثانية عشرة من عمره.
هذا المقال البديع هاجم فيه الحشوية وانتصر فيه لدعوة الحق دعوة الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب ـ رحمه الله تعالى ـ ومصطلح الحشوية هنا معناه: المناهضون للمصلحين.
قال الكاتب: وهم اليوم ضروب: فمنهم حشوية الدين، وحشوية العلم، وحشوية السياسة، ولشد ما لقي المصلحون من شيوخ السوء حشوية الدين الجامدين، في سبيل الدعوة إلى الحق، وما نالهم من النكبات مادياً وأدبياً. اهـ ثم يخص الكاتب حشوية بلده فيقول: كما هو الحال الآن في حشوية الدماشقة، ورميهم علماءهم الأطهار وأحرارهم الأخيار، بالوهبنة تارة والزندقة تارة أخرى.
ألا وإن التاريخ يعيد نفسه، فقد مثّل لنا رمي هؤلاء الحشوية للمصلحين بالوهابية رمي الروافض لأهل السنة بالنواصب، وتسمية القدرية لهم بالمجبرة وتسمية الجهمية لهم بالمجسمة والمشبهة.
على أن هذه الأقاويل لا تغمط من قدرهم، ولا تحط من علمهم شيئاً، بل على العكس من ذلك، فإنها قد تكون واسطة لرفعة شأنهم وتألق شهرتهم..
إنه لا يسوغ الاعتماد في مثل هذه الحال على تقول الخراصين من أولئك الطغام الحشوية.. إذ لو أخذنا القول على عواهنه كما يلقى على مسامعنا جزافاً دون بحث ولا نظر لاختلط الحابل بالنابل، والعالم بالجاهل، وللوقوف على جلية الأمر يجب أن نقلب صفحات التاريخ، وننظر ما أثر عنهم من نفي وقول، وما أبقوا من عمل ولا يكفي ذلك لمعرفة حقيقتهم تمام المعرفة بل يجب أن نستقرئ حركاتهم أيام حياتهم استقراء عالياً دقيقاً، ثم بعد ذلك يخول لنا أن نحكم عليهم بعد أن كنا تصورناهم حق التصوير، فإن وجدناهم طبق ما يقال عنهم قبلناه وحولنا مجرى أفكارنا، وإلا رفسناه بأخمص أقدامنا وضربنا به عرض الحائط.
ومما يجري هذا المجرى وتجدر العناية به وإعطاؤه جانبا من التمحيص والتدقيق مسألة (الوهابية) التي طار في عامة الأقطار نبأها، واستلمت زمامها (الحشوية) فأصبحت تديرها ما شاءت وشاء لها الهوى، حتى غمض الحق على طالبيه، فذهب بين جهل شيوخ السوء وأغراض أعداء التجديد.
وما كان أحرى بهؤلاء أن لا يخوضوا في هذه المسألة، فقد آل نبأ الوهابية إلى أن صار سمراً وفكاهات. ومن ذلك: أن كل من روى من المدرسين أو الخطباء أحاديث الشرك جلياً أو خفياً، يتناجون بأنه يرمز للوهبنة، ويسمونه (وهابياً) مع أن زعيمهم يدعى (محمد بن عبد الوهاب) فكان الأجدر تسميتهم (محمدية) وهكذا الحال الآن، فلا تسمع في المنتديات ـ عامة كانت أو خاصة ـ إلا الوهابية والوهبنة لكل من أنكر منكراً، أو ناقش في أمر أو بحث في مسألة.. وقد عرف الجميع سر المسألة، بل انقلب الأمر على القائمين على الوهابية، وانعكست القضية، إذ زرعوا في أذهان العامة من الرجال والنساء مُنْفرداتهم وما يؤثر عنهم، وأصبح كثير من الناس يدقق في تلك المسائل ويلهج بها، ويسأل عنها النبهاء المنوّرين ليصل إلى أصلها، وكثير من أولي السذاجة والفطرة توهبن بفضل تلك الثورة التي هاج ثائرها منذ عهد غير بعيد..
قالوا: «الحقيقة بنت البحث» نعم، هذا ما حدا بي إلى أن آتي في هذه العجالة على نتف من حقيقة أمر هؤلاء الوهابية، ليتبين الرشد من الغي، ويعلم أولئك المموهون أن للحق أنصاراً، وأن التاريخ لا يترك كبيرة ولا صغيرة إلا أحصاها. اهـ
ثم بعد هذا المدخل الجميل من الكاتب بدأ في الحديث عن دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وبيان محاسنها، فيقول:
وبعد فمن هم أولئك الذين يفترى عليهم ما يفترى؟
هم أولئك الطائفة من الحنابلة التي تتمذهب بمذهب الإمام أحمد وعقيدته لم يخرجوا عنها قيد شبر، وهم يتبرأون من الشرك الجلي والخفي الذي حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم: هم أولئك الذين يقدمون أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وآثار الصحابة على غيرها، ومذهبهم في صفاته تعالى مذهب السلف: لا تشبيه ولا تعطيل {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} هم أولئك الذين على مذهب أهل السنة والجماعة (السلف) يمقتون المعتزلة والخوارج وكل فرقة ليست على مشرب السلف الصالح، ولا هم لعلمائهم إلا البحث في الأصول وفي الفروع، ولا لعامتهم إلا السعي وراء الاكتساب والاتجار.. وهم لا يأكلون لحم أخ بغيبة، ولا يمشون بنميمة، ولا تبدر على ألسنتهم بوادر القذف، ولا يسلمون لأنفسهم العنان فينهمكون في الفحش والموبقات.
وهم ليسوا بثعالب رواغة يمكرون أو يخدعون.
وهم أحرار جادون في طلب العلم أينما حلوا وحيثما وجدوا وإنك لا تراهم مرة لاعبين أو عابثين. وهم يفرون من البدع فرارهم من المجذوم.
وبالجملة فماذا يقال عن اخلاص قوم عرفوا بالتمسك بالإسلام، وهم في مقدمة كل طوائفه إيماناً وإيقاناً.
ويرحم الله أحد الأفاضل حيث قال: «لو تجسم الإسلام بإنسان لكان أهل نجد رأسه».
هذا ما نعرفه عنهم كما دلتنا عليه مصنفاتهم التي ألفها أهل الرأي الراجح والعلم الصحيح منهم، وكما رأينا ذلك في غير واحد من التواريخ التي تبين سيرتهم أحسن تبيان، كتاريخ «الجبرتي» وغيره.
ليت شعري بم يجيب ذلك المعاند الذي يرميهم بأنواع الكفر والضلال إذ قلت بأنهم يقيمون الصلوات الخمس بأوقاتها ويؤدون زكاة أموالهم بأنصابها، وأنهم يصومون شهر رمضان، ويزورون البيت الحرام على الطريقة المأثورة ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.
ماذا يكون جوابي إذا رفعت عقيرتي قائلاً: إنهم فئة يكدون ويكدحون في جهاد هذه الحياة، ويفارقون الأهل والأوطان ابتغاء النفع والانتفاع والكسب من الحلال، فيتجرون بالعقود المشروعة ولا يتحيلون لشبهاتها، بل لا يرضون أن يعيشوا عيشة الأذلاء الأنذال كلا على غيرهم..
ولقد علم قيامهم بشعائر الدين في حلهم وترحالهم، وتصلبهم في ذلك، والتورع في معاملاتهم كل من خبرهم، كما عرف ذلك منهم معاملوهم من التجار في كل قطر ومصر.
ثم تحدث الكاتب عن بعض المسائل الاجتهادية وأن الخلاف فيها بين أهل الإسلام قائم، وأن الشيخ محمد بن عبد الوهاب ما أتى بشيء من عنده، وإنما دعا إلى نصوص ظفر بها وعثر عليها وهي لمن تقدمه من الأئمة المشاهير ممن سبقوا عصره بنحو ستمائة سنة. ثم ختم حديثه بقوله:
وبعد فلسنا نقول ذلك تشيعاً أو تحزباً فإن ذلك من شأن المتعصبين الجامدين، بل دلالة على مكان المدح، وحذراً من بخس الناس أشياءهم، واستبراء للدين من قذف البريء وبهت المؤمن وفي ذلك عبرة لقوم يذكرون.
نقلت لك أيها القارئ الموفق جملاً جميلة من مقال الدكتور صلاح الدين والذي هو بعنوان «الحشوية والوهابية»..
والآن أجدني أكمل لك الفائدة بتعليقات فيها اشادات بمزايا المقال، واضاءات على أهم ما فيه من الفوائد الفرائد، موضحاً ما يحتاج إلى ايضاح:
1ـ اطلاق الكاتب ـ رحمه الله تعالى ـ على دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ـ رحمه الله تعالى ـ الوهابية، تنزلاً مع الخصوم لا إقراراً لهذه التسمية، ولهذا فإنه أشار إلى ملحظ مهم، حيث قال: فكان الأجدر تسميتهم «محمدية» نسبة إلى الشيخ محمد بن عبد الوهاب.
وعلى كل حال فإن الخصوم إنما يطلقون هذا اللقب على دعوة الحق ليوهموا عوام الناس أن الشيخ محمد أتى بمذهب جديد، أو رأي لم يسبق إليه، وليس كذلك الأمر ولهذا قال الكاتب ـ رحمه الله ـ والحق يقال أن محمد بن عبد الوهاب لم يأت بشيء من عنده، وإنما دعا إلى نصوص هي لمن تقدمه من الأئمة المشاهير.
2 ـ أفاد الكاتب ـ رحمه الله تعالى ـ أن مريد الحق وطالب الإنصاف في شأن دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب عليه أن يقرأ ما كتبه شيخ الفقهاء الحنفية بمصر المؤرخ الشهير الإمام الجبرتي، بل قال: وحرام على من لم يراجع تاريخ الجبرتي في شأنهم أن يبهتهم رجماً بالغيب ما كان الجبرتي وهابياً ولا نجدياً ولا حنبلياً، وإنما كان حنفياً، بل مفتي الحنفية في مصر في عهد محمد علي باشا الذي حاربهم. اهـ
قلت: هذا تنبيه نبيه، حيث أن تزكية الجبرتي ـ رحمه الله تعالى ـ جاءت خلال حديثه عن الحروب بين محمد علي والدرعية، فكانت تزكية زكية، الإنصاف فيها ظاهر، إذ دواعي ذمهم متوافرة، فكانت ديانة الجبرتي مانعة له من تغيير الحقائق.
وقد كان تنبيه الكاتب ـ رحمه الله ـ محل قبول، ولهذا جاء من العلماء وغيرهم من لخص ما كتبه الجبرتي في ذلك، وجمعه في نسق واحد بعد أن كان متفرقاً في ثنايا تاريخ الجبرتي، من أولئك الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد رئيس المجلس الأعلى للقضاء ـ رحمه الله تعالى ـ حيث جمع ذلك في عشر ورقات، طبعت ضمن «المجموعة المحمودية» بمطبعة المدني بمصر، ثم كتب الأستاذ محمد أديب غالب كتاباً بعنوان «من أخبار الحجاز ونجد في تاريخ الجبرتي» طبع بدار اليمامة بالرياض.
3ـ مدح الكاتب ـ رحمه الله تعالى ـ موقف علماء الأزهر من كتاب تاريخ الجبرتي، حيث قال: ولأن العلماء في الأزهر أئمة فضلاء يذعنون للحق وينقادون له، وهم يرون أمثال ما ينشره الجبرتي عنهم حقائق لا تشوبها شائبة وهَم ولا ابهام. اهـ
قلت: لم يعرف من متقدمي الأزاهرة ـ رحمهم الله تعالى ـ انتقاد الدعوة على رغم أن الحرب العسكرية بدأت من بلادهم، وإنما تكلم بالإثم بعض المتأخرين كالدجوي ـ المتوفى في سنة 1365 هـ ولقد لقي انتقادات من بعض علماء مصر المشهورين كالشيخ محمد رشيد رضا، وغيره.
4 ـ وصف الكاتب ـ رحمه الله ـ أهل نجد وصف من جلس بينهم، فجاء بما لا يخرج عن واقعهم آنذاك قيد أنملة:
أـ وصف علماءهم بأنه لا هم لهم سوى البحث في أصول الدين وفروعه. فهم علماء الآخرة وليسوا من علماء الدنيا الذين لا هم لهم سوى أصول المال وفروعه، فأضاعوا العلم وأضاعوا بإضاعته خلقاً كثيراً.
ومن خبر سيرة علماء الدعوة الذين تحدث عنهم الدكتور صلاح الدين ـ رحم الله الجميع ـ رأى عجباً في الهمم العالية والاطلاع الواسع والتفرغ للعلم تعلماً وتعليماً، ولذا لم يذكر عن أحد منهم أنه ترك مالاً وفيراً.
ب ـ أما العامة فقد وصفهم بالسعي وراء التجارة والاكتساب، بالعقود المشروعة، وأنهم بعيدون كل البعد عن المكاسب المشبوهة فضلاً عن المحرمة، ودافعهم لذلك الاستغناء عن الناس، كما قال الكاتب: ولا يرضون أن يعيشوا عيشة الأذلاء الأنذال كَلاً على غيرهم.
ج ـ نقل الكاتب عبارة عن أحد الفضلاء لم يسمه لنا، فيها إنصاف لأهلنا الأوائل وهي حق والله، أنقلها لعل شباب اليوم وأبناء زماننا يتأثرون بها، فيشابهوا آباءهم، قال: ويرحم الله أحد الأفاضل حيث قال: «لو تجسم الإسلام بإنسان لكان أهل نجد رأسه».
د ـ وصف أخلاقهم فأحسن ـ أحسن الله إليه ـ حيث أشاد بتحليهم بخلق الإسلام وابتعادهم عن سفاسف الأخلاق ورديئها، ووصفهم بالجد والبعد عن العبث، ومن جميل قوله عنهم: وهم ليسوا بثعالب رواغة يمكرون أو يخدعون، وفي ذلك إشارة إلى صدقهم وصراحتهم المتميزة.
5 ـ كتب الكاتب كل ذلك ابتغاء وجه الله وصدقاً، حيث لا وجود آنذاك للدوافع المادية ونحوها، فقد كتب ما كتبه وما زالت دولة التوحيد الثالثة في بدايات التأسيس، بل دوافع ترك انصاف دعوة الشيخ محمد أكثر، لأن ضرر المنصف آنذاك كبير، فاللوم والعتب والتشهير والايذاء هو ما سيواجهه في الغالب.
إذن فالحق هو الذي تجتمع عليه قلوب المؤمنين في نجد أو في الهند أو في أي بقعة من بقاع الدنيا، فلا نظر إلى الألوان أو البلدان أو القبائل، بل النظر إلى الصدق والإخلاص لله تعالى وصحة المعتقد. وإلا فما دافع الكاتب وهو شامي أن يدافع عن نجدي وهو لم يزر نجد أبداً، ولم يكن تحت ولايتها، صدق الله إذ يقول: {وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ}.
6 ـ لم ألق الضوء على هذا المقال انطلاقاً من حب المدح.. بل ليعلم من كان جاهلاً أو متجاهلاً: عظم الدعوة التي قام بها الشيخ محمد بن عبد الوهاب ـ رحمه الله ـ وأنها ليست إقليمية، بل هي تجديد في الدين لجميع المسلمين، وأن المثنين عليها كثر في أقطار العالم الإسلامي ومنهم من هو رفيع المستوى العلمي والاجتماعي كالكاتب ـ رحمه الله تعالى ـ.
لعل في هذا المثال ما يشحذ همم الأبناء على مواصلة مسيرة الآباء المقيدة بقيد الشرع الشريف الحكيم.
القائمة البريدية

Twitter

Facebook

Youtube